نشرت:
في 28 كانون
الاول (ديسمبر) 1910
جريدة ((
زفيزدا))، العدد2
المجلد
20،ص 84 -89
التحرير الرقمي: علي بطحة (تموز 2024)
كان انجلس يقول في معرض حديثه عن نفسه وعن صديقه الشهير ان مذهبهما ليس بمذهب جامد، انما هو مرشد للعمل، ان هذه الصيغة الكلاسيكية تبين بقوة رائعة وبصورة اخاذة هذا المظهر من الماركسية الذي يغيب عن البال في كثير من الاحيان. واذ يغيب هذا المظهر عن بالنا، نجعل من الماركسية شيئاً وحيد الطرف، عديم الشكل ، شيئاً جامداً لاحياة فيه، وتفرغ الماركسية من روحها الحية، وننسف اسسها النظرية الجوهرية – نعني الديالكتيك، أي مذهب التطور التاريخي المتعدد الاشكال والحافل بالتناقضات، – ونضعف صلتها بقضايا العصر العملية والدقيقة، التي من شأنها ان تتغير لدى كل منعطف جديد في التاريخ. والحال، بين الذين تهمهم مصائر الماركسية في روسيا، نجد في اغلب الاحيان، وفي ايامنا هذه على وجه الضبط، اناساً غاب عن بالهم هذا المظهر من الماركسية بالضبط. مع ان الجميع يدركون ان روسيا قد مرت في السنوات الاخيرة، بتحولات حادة، كانت تعدل الوضع بسرعة خارقة ومدهشة حقاً، الوضع الاجتماعي والسياسي الذي يحدد شروط العمل بصورة مباشرة فورية، وبالتالي، مهمات هذا العمل. واني لا اقصد، بالطبع، المهمات العامة والجوهرية التي لاتتغير في منعطفات التاريخ، حين لا تتغير النسبة الاساسية بين قوى الطبقات. وبديهي تماماً ان هذا الاتجاه العام لتطور روسيا الاقتصادي ( وليس الاقتصادي فحسب)،وكذلك النسبة الاساسية بين قوى مختلف طبقات المجتمع الروسي، لم يتغيرا، فعلاً، خلال السنوات الست الاخيرة مثلاً.
ولكن مهمات العمل المباشر والفوري تغيرت بصورة سريعة جدا خلال هذه الحقبة من الزمن، تبعاً لتغيرات الوضع الاقتصادي والسياسي الملموس، ومذ ذاك، كان لابد لشتى مظاهر الماركسية، التي هي مذهب حي، من تبرز الى المرتبة الاولى.
ولاجل توضيح هذه الفكرة لنر اية تغيرات طرأت على الوضع الاجتماعي والسياسي الملموس في هذه السنوات الست الاخيرة. اننا نلاحظ فوراً ان هذه الحقبة من الزمن تنقسم الى مرحلتين كل مرحلة من ثلاث سنوات: المرحلة الاولى تنتهي تقريباً في صيف 1907، والمرحلة الثانية في صيف 1910. ان مرحلة السنوات الثلاث الاولى تتصف من الناحية النظرية الصرف، بتحول سريع في ميزات النظام السياسي الاساسية في روسيا. وهذا التحول جرى بوتيرة غير منتظمة الى حد بعيد، اذ كان مدى الذبذبات قوياً جداً في الاتجاهين. اما الاساس الاجتماعي والاقتصادي لهذه التغيرات في (( البناء الفوقي))، فقد كان العمل الجماهيري، السافر والمهيب، الذي قامت به جميع طبقات المجتمع الروسي في شتى الميادين ( في الدوما وخارج الدوما، في الصحافة، في النقابات، في الاجتماعات، الخ.)، وبشكل نادراً ما نرى مثيلاً له في التاريخ.
وبالعكس، تتصف المرحلة الثانية من السنوات الثلاث – ونكرر قولنا اننا نقتصر هذه المرة على وجهه نظر (( علمية اجتماعية)) نظرية صرف – بتطور بطيء، الى حد انه يكاد يعادل الركود. فليس ثمة أي تحول محسوس الى هذا الحد او ذاك في النظام السياسي. ولم تقم الطبقات بأي عمل او تقريباً بأي عمل، صريح ومتعدد الوجوه، في معظم ((الميادين)) التي جرى فيها هذا العمل في المرحلة السابقة.
اما وجه الشبه بين هاتين المرحلتين فهو ان تطور روسيا ظل في كلتيهما، التطور السابق، الرأسمالي. فأنه لم يقض على التناقض بين هذا التطور الاقتصادي وبين وجود عده من المؤسسات الاقطاعية التي تتصف بطابع القرون الوسطى، فقط ظل هذا التناقض قائماً، وبدلا من ان يزول، تفاقم بالعكس من جراء تسرب عدد من العناصر البرجوازية جزئياً في هذه المؤسسات او تلك.
واما وجه الفرق بين هاتين المرحلتين، فهو انه قد برزت في الاولى في مقدمة العمل التاريخي، مسألة معروفة الى أي نتائج ستؤدي التحولات السريعة المتفاوتة المذكورة اعلاه. ان جوهر هذه التحولات، كان لابد ان يكون جوهراً برجوازياً، بسبب الطابع الرأسمالي الذي اتصف به تطور روسيا. ولكن ثمة برجوازية وبرجوازية. فأن البرجوازية المتوسطة والكبيرة، التي كانت تتمسك بليبرالية معتدلة الى هذا الحد او ذاك، كانت تخشى التحولات السريعة، بحكم وضعها الطبقي بالذات وتجهد نفسها للحفاظ على البقايا الهامة من المؤسسات القديمة، سواء الزراعي ام في (( البناء الفوقي)) السياسي. اما البرجوازية الريفية الصغيرة، المتشابكة مع جماهير الفلاحين الذين يعيشون (( من عمل ايديهم))، فكان لابد لها ام تطمح الى تحولات برجوازية من نوع اخر، تاركة مكاناً اقل بكثير لبقايا القرون الوسطى على اختلاف اشكالها. وكان لابد للعمال الاجراء، بقدر ماكانوا يهتمون عن وعي بما يجري حولهم، من ان يرسموا لانفسهم موقفاً واضح المعالم ازاء هذا الاصطدام بين هذين الاتجاهين المختلفين، اللذين كانا يحددان، رغم بقائهما في نطاق النظام البرجوازي، اشكالاً مختلفة اطلاقاً لهذا النظام، وسرعة مختلفة اطلاقا لتطوره، ومدى مختلفاً لمفاعيله التقدمية. وهكذا، جاءت مرحلة السنوات الثلاث الاخيره تضع في المرتبة الاولى من الماركسية المسائل التي درج على تسميتها بالمسائل التكتيكية، ولم يكن ذلك من قبيل الصدفة بل من قبيل الضرورة. وليس ثمه من رأي اشد خطلاً من الرأي القائل ان المناقشات والخلافات في وجهات النظر حول هذه القضايا كانت مناقشات (( مثقفين ))، و(( نضالاً في سبيل النفوذ على البروليتاريا التي ماتزال قليلة الوعي)) و ((تكيفاً من المثقفين على البروليتاريا))، كما تظن جماعة فيخي، واظرابها. بل بالعكس، فلان هذه الطبقة بلغت درجه النضج، فأنها لم تستطع ان تبقى عديمه الاحساس ازاء تصادم اتجاهين مختلفين يميزان كل التطور البرجوازي في روسيا، وكان لابد لمفكري هذه الطبقة بالضرورة من اعطاء تعريفات نظرية مناسبة ( بصفة ملموسة ام غير ملموسة، بأنعكاس مباشر ام غير مباشر) لهذين الاتجاهين المختلفين.
وخلال المرحلة الثانية، لم توضح مسألة التصادم بين الاتجاهين المختلفين للتطور البرجوازي في روسيا بوصفها مسألة الساعه، لان هذين الاتجاهين كليهما قد سحقتهما (( الجواميس البريه)) ، فتقهقرا، وانطويا على نفسيهما، وضعفا فتره من الزمن. ام الجواميس البريه المشبعه بروح القرون الوسطى لم تكن لتملا الصفوف الاولى من مسرح الحياة الاجتماعية وحسب، انما كانت تملاء ايضاً هو شعور جماعه فيخي. فلم يؤد ذلك الى التصادم بين طريقتين لتحويل القديم، انما ادى الى فقدان كل ثقه في أي تحويل كان والى بروز روح (( الخضوع)) و (( الندم)) والولع بالمذاهب اللااجتماعية، وموضة الصوفية، وغير ذلك : وهذا مابقى طافياً. وهذا التغيير الفريد السرعة لم يكن مجرد صدفة ولا مجرد نتيجه لضغط (( خارجي )). فأن المرحلة السابقه كانت قد حركت فئات السكان التي ظلت طوال اجيال وعصور في معزل عن القضايا السياسية وغيربه عن هذه القضايا، وحركتها عميقاً الى حد ان (( اعادة النظر بجميع القيم))، وبحث القضايا الاساسية من جديد، والاهتمام من جديد بالنظريه، بالالفباء، بدراسه الاصول الاوليه، كل ذلك انبثق بصوره طبيعيه محتومه. ام الملايين، التي استيقظت فجأة من سباتها الطويل وواجهت حالاً اهم القضايا، لم تستطع البقاء طويلاً في مستوى هذه القضايا. انها لم تستطع الاستغناء عن وقفه، عن عودة الى المسائل الاولية، عن استعداد جديد يتيح (( هضم)) الدروس الغنية بالعبر غنى لاسابق له، ويتيح لجماهير اوسع الى ما لا حد له، امكانية التقدم من جديد، بخطى نكون هذه المره اشد ثباتاً، واوفر وعياً، واقوى اطمئناناً، واشد استقامة، الى حد كبير.
ان ديالكتيك تطور التاريخ قد ارتدى في المرحلة الاولى شكلاً وضعت معه في جدول الاعمال مسألة تحقيق تحويلات مباشرة في جميع ميادين الحياة في البلاد، كما ارتدى شكلاً في المرحلة الثانية وضعت معه مسألة صياغة التجربة المكتسبة، وحمل اوساطاً اوسع على استيعابها، وادخلها، اذا جاز التعبير، في باطن الارض، في الصفوف المتأخرة من مختلف الطبقات.
وبالضبط لان الماركسية ليست عقيدة جامدة، ميتة، مذهباً منتهياً، جاهزاً، ثابتاً لايتغير، بل مرشد حي للعمل، لهذا بالضبط كان لابد لها من ان تعكس التغير الفريد السرعة في ظروف الحياة الاجتماعية. فقد ادى هذا التغير الى تفسخ عميق، الى البلبلة، الى ترددات متنوعة، وبكلمة، الى ازمة داخلية خطيرة في الماركسية. ولذا توضع من جديد في جدول الاعمال مهمة القيام بنضال شديد عنيد دفاعاً عن اسس الماركسية. ذلك ان اوسع الفئات من الطبقات التي لم تستطع اجتناب الماركسية، عند صياغة مهماتها، كانت قد استوعبت الماركسية في المرحلة السابقة بأكثر الاشكال تشويها وجوداً فقد حفظت هذه (( الشعارات)) او تلك، هذه الاجوبة او تلك على المسائل التكتيكية، دون ان تفهم المقاييس الماركسية لهذه الاجوبة. ان (( اعادة النظر بجميع القيم)) في مختلف ميادين الحياة الاجتماعية ادت الى (( اعادة النظر )) بأعم الاسس الفلسفية للماركسية واشدها تجرداً. وقد برز تأثير الفلسفة البرجوازية، بشتى انواعها المثالية، في وباء (( الماخية)) الذي انتشر بين صفوف الماركسيين. فأن ترديد (( شعارات)) محفوظة عن ظهر القلب، ولكن دون فهم ودون تأمل، ادى الى انتشار ضرب من التعابير الجوفاء على نطاق واسع، وهذه التعابير الجوفاء انتهت عملياً الى ميول برجوازية صغيرة مناقضة للماركسية بصورة جذرية، مثل (( الاوتزوفية))، المكشوفة او المستورة، او مثل وجهة النظر التي ترى في الاوتزوفية (( مظهراً مشروعاً)) للماركسية.
ومن جهة اخرى، تبين ان ميول جماعة فيخي، وروح التخلي الذي استولى على اوسع فئات البرجوازية، قد تسربت ايضاً الى الميل الذي يريد ادخال النظرية الماركسية والتطبيق الماركسي في نطاق (( الاعتدال والنظام)) فلم يبق فيها من الماركسية سوى التعابير التي تغطي المحاكمات المشبعة تماماً بالروح الليبرالية حول (( تدرج المراتب))، و(( الزعامة))، الخ…
يقيناً ان نطاق هذا المقال لايمكن له ان يتسع لبحث هذه المحاكمات، انما تكفي الاشارة اليها لكي نوضح ماقيل اعلاه عن عمق الازمة التي تجتازها الماركسية، وعن الصلة التي تربطها بكل الوضع الاجتماعي والاقتصادي في المرحلة الحاضرة. فليس بأمكاننا ان ندير ظهورنا للمسائل التي تثيرها هذه الازمة. وليس ثمة ما هو اشد ضرراً ومخالفة لمبادىء من محاولة التهرب منها بالثرثرة الفارغة وليس ثمة ما هو اهم من اتحاد جميع الماركسيين الذين يدركون عنق الازمة وضرورة مكافحتها دفاعا عن الاسس النظرية للماركسية وعن مبادئها الاساسية التي تشوه من مختلف الجوانب بنشر التأثر البرجوازي بين مختلف (( رفاق الطريق)) الماركسسية.
ان مرحلة السنوات الثلاث السابقة قد اشركت عن وعي، في الحياة الاجتماعية، اوساطاً واسعة ماتزال اليوم في معظم الاحيان تخطو حقاً الخطوات الاولى للاطلاع على الماركسية. وبهذا الصدد تولد الصحافة البرجوازية عدداً من الضلالات اكثر بكثير مما مضى وتنشرها على نطاق اوسع. ولذا كان فهم هذا التفسخ واسباب حتميته في الفتره التي نجتاز، والتجمع لمكافحته بحزم، المهمة التي يفرضها عصرنا على الماركسيين، بكل معنى الكلمة الدقيق والاولي.