كتبها كارل ماركس في ديسمبر 1848
نشرت
في مجلة "Neue Rheinische Zeitung No. 169
" (الراينانية الجديدة) كولونيا 11 ديسمبر عام 1848
ترجمة
: سعيد العليمي
التحرير
الرقمي: علي بطحة (فبراير 2023)
كولونيا 11 ديسمبر
حينما انحسر فيضان مارس – وهو فيضان مصغر – لم يترك على سطح برلين اطفالا عباقرة، ولاعمالقة ثوريين، وانما مخلوقات تقليدية، اغلظ الشخصيات البورجوازية – ليبراليوا الدايت الاقليمى المتحد، ممثلوا البورجوازية البروسية الواعية. لقد وفد الممثلون الرئيسيون للوزارات الجديدة من اقليم الراين وسيليزيا، وهى الولايات التى تمثل البورجوازية الاشد تقدما. وقد تبعهم طابور كامل من المحامين. وبمجرد ان ازيحت البورجوازية خلفا من قبل الارستقراطية الاقطاعية حلت محل اقليم الراين وسيليزيا فى الوزارات الولايات البروسية القديمة. و تقوم الصلة الوحيدة لوزارة براندنبورج مع اقليم الراين من خلال البرفلد تورى بمفرده. ويمثل هانسمان وفون درهيدت! اى هذان الاسمان الفارق الكامل بين مارس وديسمبر 1848 بالنسبة للبورجوازية البروسية.
لقد بلغت البورجوازية البروسية الذروة السياسية، لامن خلال صفقة سلمية مع التاج، كما رغبت، وانما نتيجة للثورة. وكان عليها الا تدافع عن مصالحها الخاصة، وانما عن مصالح الشعب – لأن الحركة الشعبية هى التى مهدت الطريق للبورجوازية – ضد التاج، بمعنى آخر، ضد نفسها. ولأن البورجوازية قد اعتبرت التاج ببساطة ستارا بعثته النعمة الالهية، ستارا كان عليه ان يخفى مصالحها الدنيوية، فقد كانت حرمة مصالحها الخاصة والاشكال السياسية الملائمة لهذه المصالح وقد جرى التعبير عنها فى لغة دستورية، هى حرمة التاج. من هنا تأتى حماس البورجوازية الالمانية للملكية الدستورية. ورغم ان ثورة فبراير بكل اصداءها فى المانيا قد رحبت بها البورجوازية البروسية، لأن الثورة قد وضعت ادارة الدولة فى يدها، فانها ايضا عاكست خطط البورجوازية، لأن حكمها كان مقيدا بشروط لاتمثل ارادتها كما انها كانت غير قادرة على انجازها.
لم ترفع البورجوازية اصبعا، غايته انها سمحت للشعب ان يقاتل من اجلها. لذا فإن الحكم الذى دعيت لممارسته لم يكن حكم قائد هزم خصمه، وانما حكم لجنة للسلامة العامة عهد اليها الشعب المنتصر بحماية مصالحه.
كان كامبهاوزن مايزال مدركا بوضوح هذا الوضع المحرج، ويرجع ضعف وزراته بشكل كامل لهذا الشعور والظروف التى انتجته. حتى اشد افعال حكومته عارا قد صبغت من ثم بنوع من حمرة الخجل. اما عدم الحياء المكشوف والغطرسة فقد كانت مميزات هانسمان، والبشرة الحمراء هى كل مايميز هذين الفنانين الواحد عن الآخر.
ولايجب ان نخلط ثورة مارس فى بروسيا مع اى من الثورة الانجليزية لعام 1648 او مع الثورة الفرنسية لعام 1789.
لقد تحالفت البورجوازية عام 1648 مع الارستقراطية الحديثة ضد الملكية، والارستقراطية الاقطاعية والكنيسة القائمة.
وتحالفت البورجوازية عام 1789 مع الشعب ضد الملكية، والارستقراطية والكنيسة القائمة.
ان نموذج ثورة 1789 (على الاقل فى اوروبا) مثلته فقط ثورة 1648، ونموذج ثورة 1648 مثلته ثورة هولندا ضد الاسبان. [1] والثورتان معا تقدمتا بقرن على نموذجهما ليس فقط فى الزمان وانما ايضا فى المضمون.
وفى الثورتين جميعا كانت البورجوازية هى الطبقة التى تزعمت الحركة. ولم تكن البروليتاريا والشريحة غير البورجوازية من الطبقة الوسطى قد طورت مصالح متمايزة عن مصالح البورجوازية او انهما لم تشكلا بعد طبقات مستقلة او اقساما من طبقات. وعلى ذلك، حيثما عارضوا البورجوازية، كما فعلوا فى فرنسا عام 1793 و 1794، فقد قاتلوا لتحقيق اهداف البورجوازية، وان يكن بطريقة غير بورجوازية. لقد كان الارهاب الفرنسي بكامله بمثابة طريقة عامية فى التعامل مع اعداء البورجوازية، الحكم المطلق، الاقطاع وما يمثل القديم.
لم تكن ثورتى 1648 و1789 ثورتان انجليزية وفرنسية، لقد كانتا ثورتان على الطراز الاوروبى. وهما لم تمثلا انتصار طبقة اجتماعية خاصة على النظام السياسي القديم، لقد اعلنتا النظام السياسي للمجتمع الاروبى الجديد. لقد انتصرت البورجوازية فى هاتين الثورتين، ولكن كان انتصار البورجوازية فى هذا الزمان انتصارا لنظام اجتماعى جديد، انتصار الملكية البورجوازية على الملكية الاقطاعية، للقومية على الاقليمية، للمنافسة على الطائفة الحرفية، للتقسيم (فيما يخص الارض) على حق البكورة، لحكم مالك الارض على هيمنة المالك بواسطة الارض، للتنوير على الخرافة، وللعائلة على اسم العائلة، وللصناعة على الكسل البطولى، وللقانون البورجوازى على امتيازات القرون الوسطى. لقد كانت ثورة 1648 انتصارا للقرن السابع عشر على القرن السادس عشر، كما كان انتصار ثورة 1789 انتصار القرن الثامن عشر على القرن السابع عشر. لقد عكست هاتان الثورتان احتياجات العالم فى هذا الزمان وليس احتياجات تلك الاقسام من العالم التى جرت فيها، اى انجلترا وفرنسا.
لم يكن هناك شئ من ذلك فى ثورة مارس البروسية.
لقد ازالت ثورة فبراير الملكية الدستورية من الناحية الفعلية غير انها ازالت حكم البورجوازية من الناحية الاسمية. لقد كان يتعين على ثورة مارس البروسية ان تؤسس اسميا الملكية الدستورية وتؤسس فعليا حكم البورجوازية. لقد كانت ابعد من ان تكون ثورة اوروبية، غير انها مثلت صدى ضعيفا لثورة اوروبية فى بلد متخلف. وبدلا من ان تكون متقدمة قرنا من الزمان، فقد كانت متأخرة نصف قرن عن زمنها. لقد كانت منذ البداية الاولى ظاهرة ثانوية، ومن المعروف ان الامراض الثانوية اصعب فى الشفاء، ويمكن لها ان تسبب اضرارا اشد مما يمكن ان تسببه الامراض الاولية. لم تكن المسألة مسألة تأسيس مجتمع جديد، وانما بعث مجتمع فى برلين كانت قد انتهت صلاحيته فى باريس. لم تكن ثورة مارس البروسية حتى ثورة قومية المانية، لقد كانت منذ البداية ثورة اقليمية بروسية. فى فيينا، كاسل، ميونيخ وفى مدن اقليمية متنوعة جرت انتفاضات اقليمية بموزاتها ونافستها.
بينما احرزت ثورتا عام 1648 و 1789 ثقة فى الذات لاحدود لها انطلاقا من معرفة انهما كانتا تقودان الكوكب، فقد كان طموح (ثورة) برلين لعام 1848 ينطوى على مفارقة تاريخية. كان ضوءها مثل ضوء النجوم التى تصلنا، نحن سكان الارض، فقط بعد ان تكون الاجسام التى انبثق عنها قد همدت منذ مئات الاف الاعوام. كانت ثورة مارس فى بروسيا، على نطاق ضيق – مثلما فعلت كل شئ على نطاق ضيق – هذا النجم بالنسبة لاوروبا. لقد كان ضوءها ضوء جسم اجتماعى تحلل منذ زمن بعيد.
لقد تطورت البورجوازية الالمانية بشكل غاية فى البلادة، بجبن وببطء حتى انها فى اللحظة التى واجهت فيها الاقطاع والحكم المطلق متوعدة اثارت ضدها البروليتاريا المعرضة للخطر ومعها كل اقسام الطبقة الوسطى التى ارتبطت مصالحها وافكارها بمصالح وافكار البروليتاريا. لم تجد البورجوازية الالمانية طبقة واحدة فقط خلفها، ولكنها وجدت كل اوروبا تواجهها بعداوة. وبخلاف البورجوازية الفرنسية فى عام 1789، لم تكن البورجوازية البروسية، حينما واجهت الملكية والارستقراطية، ممثلتى المجتمع القديم، طبقة تتحدث لصالح كل المجتمع الحديث. لقد اختزلت الى نوع من طائفة متميزة بوضوح عن التاج بقدر ماهى متميزة عن الشعب، مع ميل قوى لمعارضة الخصمين ومترددة ازاء كل منهما منفردين لانها رأتهما دائما اما فى مقدمتها او خلفها. وكانت تميل منذ البداية لأن تخون الشعب وان تساوم مع الممثلين المتوجين للمجتمع القديم، وقد جعلت انتماءها بالفعل للمجتمع القديم، وهى لم تدفع قدما مصالح مجتمع جديد ضد المجتمع القديم، وانما قدمت مصالح مجددة داخل مجتمع عتيق. ولم تتولى قيادة الثورة لأن الشعب قد اصطف وراءها وانما لأن الشعب قد ساقها امامه، لقد تصدرت لانها مثلت فحسب حقد حقبة اجتماعية قديمة وليس مبادرات حقبة جديدة. طبقة من الدولة القديمة اخفقت ان تنجز وتحقق، القى بها على سطح الدولة الجديدة بقوة الزلزال، بدون ثقة فى نفسها، وبدون ثقة فى الشعب، تتذمر من هؤلاء الذين فوق، مرتعبة من هؤلاء الذين تحت، انانية ازاءهما ومدركة لأنانيتها، ثورية بالقياس الى المحافظين ومحافظة بالقياس الى الثوريين. وهى لم تثق فى شعاراتها الخاصة، واستخدمت الفاظا بدلا من ان تستخدم افكارا، وارتعبت من عاصفة العالم واستغلتها من اجل غاياتها الخاصة،ولم تبد اية طاقة فى اى مكان، غير انها لجأت للانتحال فى كل مكان، لقد كانت مبتذلة لانها غير اصيلة، لكنها اصيلة فى ابتذالها، تساوم على مطالبها الخاصة، تفتقر للمبادرة، وبدون ثقة فى نفسها، بدون ثقة فى الشعب، وليست لها مهمة تاريخية، مخرفة بغيضة تجد نفسها منذورة لأن تقود وتضلل النبض الفتى الاول لشعب قوى، وهكذا تجعله يخدم مصالحها الخرفة الخاصة – بدون عين، بدون اذن، بدون اسنان – بدون اى شئ – هكذا كانت البورجوازية الروسية التى وجدت نفسها فى قيادة الدولة البروسية بعد ثورة مارس.
(1)اشارة الى الثورة التى حدثت فى هولندا من 1566 الى 1609.