آن شكلاً معيناً من التزاوج الثنائي، من التجامع بين شخصين لمدة قد طول أو تقصر، كان موجوداً في ظروف الزواج الجماعي أو حتى قبل ذاك، فقد كانت للرجل زوجة رئيسية (و يكاد يكون من غير الممكن القول أنها الزوجة المفضلة) في عداد زوجات كثيرات، وكان بالنسبة لها الزوج الرئيسي في عداد أزواج كثيرين. وقد أسهم هذا الأمر بقسط كبير في خلق التشوش في رؤوس المرسلين الذين اعتبروا الزواج الجماعي، تارة مشاعية للنساء لا قاعدة لها ولا ضابط، وطوراً حرية مطلقة في انتهاك الإخلاص الزوجي. ولكن هذا الشكل للتجامع الثنائي، بين شخصين، الذي أصبح عادة مألوفة كان لا بد له أن ترسخ أكثر فأكثر بقدر ما كانت العشيرة تتطور وبقدر ما كانت تتزايد جماعات (الأخوة” و”الأخوات” التي غدا الزواج مستحيلاً فيما بينها. إن الدفعة التي بثتها العشيرة في اتجاه منع الزواج بين الأقرباء بالدم قد أدت إلى أبعد من ذلك. وهكذا نجد أن الزواج عند الإيروكوا وعند أغلبية الهنود الحمر الآخرين في الدرجة الدنيا من البربرية ممنوع بين جميع الأقرباء الذين يعددهم نظامهم، وأمثال هذا النظام بضع مئات من كل شاكلة ونوع. ونظراً لهذا التشوش المشتد في موانع الزواج، أخذت الزواجات الجماعية تستحيل أكثر فأكثر، وأخذت العائلة الثنائية تحل محلها. ففي هذا الطور، يعيش الرجل مع امرأة واحدة، ولكن تعدد الزواجات والخيانة الزوجية بين الفينة والفينة لا يزالان من حق الرجل، رغم أن تعدد الزوجات نادر الوقوع بحكم الأسباب الاقتصادية أيضاً، بيد أن المرأة مطالبة في أغلبية الأحوال بأدق الأمانة طيلة مدة المساكنة، وتعاقب على خيانتها عقاباً قاسياً. ولكنه من السهل على كل من الطرفين أن يحل الرابطة الزوجية، فيعود الأولاد إلى الأم فقط، كما من قبل.
و في هذا الحصر الذي يضيق أكثر فأكثر ويستبعد الأقرباء بالدم من الرابطة الزوجية، يواصل الاختيار الطبيعي فعله. وحسب مورغان:
“كانت الزواجات بين أفراد العشائر التي لا تجمع بينها قرابة الدم تؤدي إلى نشوء سلالة أقوى سواء جسدياً أو عقلياً، وكانت قبيلتان بسبيل التقدم تندمجان في قبيلة واحدة، فتأخذ جماجم وأدمغة الأجيال الجديدة تتسع بصورة طبيعية إلى أن تبلغ مقاييس تناسب مجموعة خصائص القبيلتين”(38) .
و عليه كان لا بد للقبائل ذات التنظيم القائم على العشيرة أن تتغلب على القبائل المتأخرة أو أن تجتذبها وراءها بمثالها.
إن تطور العائلة في العصر البدائي يتلخص إذن في استمرار تقلص تلك الحلقة التي كانت في البدء تشمل القبيلة كلها والتي كانت تسود في داخله مشاعية علاقات الزواج بين الجنسين. وبالاستمرار على استبعاد الأنسباء الأكثر قرابة بادئ ذي بدء، ثم الأنسباء الأكثر بعداً، وأخيراً، حتى الأنسباء بالمصاهرة، أخذ كل شكل من أشكال الزواج الجماعي يستحيل عملياً، ولم يبق في آخر المطاف إلا زوج من اثنين تجمع بينهما علاقات زواج غير متينة، لم يبق غير جزيئة يضع انشطارها حداً للزواج. ومن هذا وحده يتبين مدى ضآلة ما يجمع بين ظهور الزواج الأحادي وبين الحب الجنسي الفردي بمعناه الحالي. وهذا ما تثبته بمزيد من القوة ممارسة جميع الشعوب التي لا تزال في هذه الدرجة من التطور. فبينا لم يكن الرجال ليشعرون أبداً بأي نقص إلى النساء في ظل الأشكال السابقة للعائلة، بل كان لديهم منهن بالأحرى أكثر من اللزوم، أصبحت النساء الآن أمراً نادراً يجب البحث عنه. ولهذا يبدأ خطف النساء وشراء النساء منذ ظهور الزوج الثنائي، وهما علامتان واسعتا الانتشار، رغم أنهما ليستا أكثر من علامتي تغير أشد عمقاً بكثير، ومن هاتين العلامتين اللتين كانتا لا تتعلقان إلا بأساليب الحصول على النساء، لفق الدعي الاسكتلندي ماك-لينان، مع ذلك، شكلين خاصين للعائلة: “الزواج بالخطف” و”الزواج بالشراء”. ومن جهة أخرى، ليس عقد الزواج عند الهنود الحمر الأميركيين وعند شعوب أخرى (لا تزال في درجة التطور نفسها) من شأن الذين سيتزوجون والذين لا يأخذون رأيهم في عالب الأحيان، بل من شأن أمهاتهم. وهكذا لا يندر أن تتم خطبة شخصين لا يعرفان أبداً أحدهما الآخر، ناهيك بأنهم لا يطلعونهما على صفقة الزواج إلا متى اقترب موعد الزواج. وقبل العرس، يقدم الخطيب هدايا إلى أقارب الخطيبة في العشيرة ( أي إلى أقاربها من جهة الأم، لا إلى الأب والأقارب من جهته)، وتعتبر هذه الهدايا ثمن الفتاة التي سيعطونه إياها. ومن الممكن فسخ الزواج بناء على رغبة كل من الزوجين، ولكنه تكون تدريجياً عند كثير من القبائل، وبينها مثلاً قبيلة الإيروكوا، رأي عام سلبي حيال فسخ الزواج. فحين تنشب الخلافات بين الزوجين، يقوم أقرباء الزوجة وأقرباء الزوج في العشيرة بدور الوساطة، ولا يتم فسخ الزواج إلا إذا أخفت الوساطة، مع العلم أن الأولاد يبقون للزوجة، وإنه يصبح من حق كل من الطرفين أن يتزوج من جديد.
إن العائلة الثنائية، التي هي بحد ذاتها على درجة كبيرة من الضعف وعدم الاستقرار بحيث أنها لا تجعل من الضروري أو حتى من المرغوب فيه قيام اقتصاد بيتي خاص، لا تقضي إطلاقاً على الاقتصاد البيتي الشيوعي الموروث من مرحلة سابقة. ولكن الاقتصاد البيتي الشيوعي يعني سيادة النساء في البيت، كما أن الاعتراف بالأم وحدها، نظراً لاستحالة معرفة الوالد بكل ثقة، يعني رفيع الاحترام للنساء أي للأمهات. وأن الرأي الزاعم أن المرأة كانت عبدة الرجل في بداية تطور المجتمع هو من أسخف الآراء التي تركها لنا عصور الأنوار في اقرن الثامن عشر. فإن المرأة عند جميع المتوحشين وعند جميع القبائل في الطورين الأدنى والأوسط، وجزئياً في الطور الأعلى من البربرية، لا تتمتع بالحرية وحسب، بل تشغل أيضاً مركزاً مشرفاً جداً. أما ما هو هذا المركز في ظل الزواج الثنائي، فيمكن أن يفيدنا عنه أشير رايت الذي كان خلال سنوات عديدة مرسلاً بين الإيروكوا من قبلة سينيكا. فهو يقول:
“و فيما يخص عائلاتهم، عندما كانت لا تزال تعيش في بيوت طويلة قديمة” (و هي اقتصادات بيتية شيوعية لبضع عائلات)”… كان يهيمن دائماً فيها “كلان” clan ما” (عشيرة) “بحيث أن النساء كن يتزوجن من رجال “كلانات”” (عشائر)” أخرى”.”… وعادة كان النصف النسائي يهيمن في البيت، كانت الاحتياطيات مشتركة، ولكن الويل للزوج المنحوس أو العشيق المنحوس الفائق الكسل أو الفائق الخرافة، فلا يسهم بقسطه في الاحتياطي المشترك. فمهما كان عدد أولاده في البيت ومهما كانت ملكيته الشخصية في البيت، فقد كان من الممكن أن يتلقى في كل لحظة أمراً بربط صرته وبالرحيل. ولم يكن ليجرؤ حتى للقيام بمحاولة لمقاومة هذا الأمر، فإن البيت كان يتحول بالنسبة له إلى جهنم، ولم يكن يبقى له غير العودة إلى “كلانه” (عشيرته) السابق، أو غير عقد زواج جديد في “كلان” أخر- الأمر الذي كان يحدث في أغلب الأحيان. وكانت النساء قوة كبيرة في الكلانات” (العشائر)، “و كذلك في كل مكان على العموم. وكن لا يترددن أحياناً عن عزل زعيم ما وإنزاله إلى مرتبة محارب بسيط”(39) .
إن الاقتصاد البيتي الشيوعي الذي كانت فيه جميع النساء أو أغلبيتهن ينتمين إلى العشيرة نفسها، بينا الرجال ينتمون إلى عشائر مختلفة، هو الأساس الفعلي لتلك الهيمنة التي كانت تتمتع بها المرأة في الأزمة البدائية في كل مكان، والتي يشكل اكتشافها مأثرة باهوفن الثالثة. وأضيف أيضاً أن أخبار الرحالة والمرسلين حول العمل المرهق الملقى على عاتق النساء عند المتوحشين والبرابرة لا يتناقض أبداً ما قيل أعلاه. فإن تقسيم العمل بين الجنسين لا يشترطه وضع المرأة في المجتمع، بل تشترطه أسباب مختلفة تماماً. فإن الشعوب التي يجب عندها أن تشتغل النساء أكثر بكثير مما يترتب عليهن حسب تصوراتنا، تبدي في غالب الأحيان من الاحترام الحقيقي للنساء أكثر بكثير مما يبديه أوروبيونا. فإن “سيدة” عصر الحضارة، المحاطة بالتقدير والإجلال الظاهريين، والغريبة عن كل عمل حقيقي، تشغل وضعاً اجتماعياً أدنى إلى ما لا حد له من وضع المرأة في عصر البربرية، التي كانت تقوم بعمل مرهق والتي كانت تعتبر بنظر شعبها سيدة حقيقية (lady,frowa,Frau= سيدة) والتي كانت كذلك حقاً وفعلاً بحكم وضعها.
أما فيما يتعلق بمسألة معرفة ما إذا كان الزواج الثنائي في أميركا قد حل تماماً محل الزواج الجماعي، فينبغي أن توضحها دراسة أوسع وأعمق للشعوب الشمالية الغربية ولا سيما لشعوب أميركا الجنوبية، التي لا تزال في الطور الأدنى من الوحشية. ففي القصص عن هذه الشعوب الأخيرة، نجد من الأمثلة المتنوعة عن حرية العلاقات الجنسية ما يكاد يجعل من المستحيل هنا القول بزوال الزواج الجماعي القديم زوالاً تاماً. وعلى كل حال، لم تزل بعد جميع آثاره. فعند أربعين قبيلة في أميركا الشمالية على الأقل، يحق للرجل الذي يتزوج الأخت الكبرى أن يتزوج أيضاً جميع أخواتها ما أن يبلغن السن المقررة، وهذا أثر لمشاعية الرجل بالنسبة لمجموعة كاملة من الأخوات. ويروي بانكروفت عن سكان شبه جزيرة كاليفورنيا (الطور الأعلى من الوحشية) أنهم يقيمون احتفالات تجتمع فيها عدة “قبائل” بقصد المضاجعة غير المنظمة (40) . والمقصود هنا، على الأرجح، العشائر التي كانت هذه الاحتفالات بالنسبة لها شكلاً يحتفظ بذكريات غامضة عن ذلك الزمن الذي كان فيه جميع رجال عشيرة واحدة أزواجاً مشتركين لنساء عشيرة أخرى، والعكس بالعكس. ومثل هذه العادة لا تزال سارية المفعول في أوستراليا. وحدث عند بعض الشعوب أن يستغل الشيوخ والزعماء والكهنة السحرة في مصلحتهم مشاعية النساء ويحتكروا أغلبية النساء لأنفسهم، ولكنه يتعين عليهم مقابل ذلك في أعياد معينة وفي زمن الاجتماعات العشبية الكبيرة أن يجيزوا من جديد مشاعية النساء التي كانت قائمة من قبل ويسمحوا لنسائهم بالترفه مع الشبان. ويورد فسترمارك في الصفحتين 28 و29 من كتابه جملة كاملة من الأمثلة على هذه “الساتورنالات” (41) الدورية التي كانت تقوم فيها من جديد لفترة قصيرة من الزمن العلاقات الجنسية الحرة السابقة: عند قبائل الهو والسانتال والبانجا والكوتار في الهند، وعند بعض الشعوب الإفريقية، الخ.. ومن المستغرب أن فسترمارك يستخلص من هنا استنتاجاً مفاده أن هذه ليست من بقايا الزواج الجماعي الذي ينكر وجوده، بل بقايا فترة الهيجان، المشتركة بين الإنسان البدائي والحيوانات الأخرى.
و هنا نصل إلى الاكتشاف الرابع الكبير الذي حققه باهوفن، وهو اكتشاف شكل واسع الانتشار للانتقال من الزواج الجماعي إلى الزواج الثنائي. إن ما يصوره باهوفن بصورة تكفير عن مخالفة وصايا الألهة القديمة، وهو تكفير تشتري المرأة به الحق في العفاف، ليس في الواقع غير تعبير صوفي للتكفير الذي كانت به المرأة تفدي نفسها من مشاعية الرجال القائمة في الأزمنة السابقة وتكسب الحق في أن تكون لرجل واحد فقط. إن هذه الفدية تتلخص في عادة مضاجعة الغير، المحدودة بإطارات معينة: فقد كان ينبغي على النساء البابليات أن يضاجعن الرجال مرة واحدة في السنة في هيكل ميليتا، وكانت شعوب أخرى في آسيا الصغرى ترسل بناتها لسنوات بكاملها إلى هيكل أنايتيس حيث كان ينبغي عليهن ممارسة الحب الحر مع محظيين من اختيارهن قبل أن ينلن الحق في الزواج. وهناك عادات مماثلة مجلببة بجلباب ديني ملازمة لجميع الشعوب الآسيوية تقريباً التي تعيش بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الغانج. ثم أن الكفارة التي تضطلع بدور الفدية تغدو أسهل فأسهل مع مر الزمن، كما سبق ولاحظ باهوفن:
“إن الكفارة المقدمة سنوياً تحل محلها الكفارة الواحدة الوحيدة، وهيتيرية السيدات المتزوجات تحل محلها هيتيرية الفتيات: ومحل ممارستها أثناء الزواج تحل ممارستها قبل الزواج، ومحل الاستسلام للجميع دون أي تمييز، يحل الاستسلام لأشخاص معينين”(“حق الأم”).
و لا وجود للجلباب الديني عند شعوب أخرى، فعند بعضها، في الأزمنة القديمة، عند التراقيين والسلت وغيرهم، وفي الأزمنة
الحاضرة، عند كثيرين من سكان الهند الأصليين، وعند شعوب الملايو، وعند سكان جزر المحيط الهادي، وعند كثيرين من
الهنود الحمر الأميركيين، تتمتع الفتيات قبل الزواج بكامل الحرية في العلاقات الجنسية. وهذا الوضع منتشر على الأخص
في كل مكان تقريباً من أميركا الجنوبية، الأمر الذي يمكن أن يشهد عليه كل من تغلغل، وإن قليلاً، في أعماق هذه
القارة. فإن أغاسيس (“رحلة في البرازيل”، بوسطن ونيويورك، عام 1886(42)
) يروي لنا ما يلي عن عائلة غنية
من أصل الهنود الحمر. فعندما تعرف على الابنة، سأل عن والدها مفترضاً أنه زوج أمها الذي اشترك آنذاك في الحرب ضد
الباراغواي بوصفه ضابطاً، ولكن الأم أجابت بابتسامة:nao tem pai, é filha dafortuna – ليس لها أب، إنها
ابنة الصدفة.
“هكذا تقول دائماً النساء من الهنود الحمر والنساء الهجائن دون حياء وخجل عن أولادهن غير
الشرعيين، وليس هذا استثناء، بل العكس هو بالأحرى استثناء. إن الأولاد.. لا يعرفون في غالب الأحيان غير أمهم لأنها
تتحمل كل الهموم وكل المسؤولية، وهم لا يعرفون شيئاً عن والدهم، ناهيك بأنه لا يخطر أبداً في بال المرأة، أغلب الظن،
أنه يمكن أن يكون لها أو لأولادها أي حق عليه”.
إن ما يبدو هنا غريباً بالنسبة لإنسان متحضر، هو القاعدة بكل بساطة بموجب الحق الأمي وفي ظل الزواج الجماعي.
و عند بعض الشعوب، يمارس أصدقاء العريس وأنسباؤه أو الضيوف المدعوون إلى العرس، أثناء العرس بالذات، الحق على العروس
الموروث منذ الأزمنة القديمة، مع العلم أن العريس يأتي الأخير في الدور، هكذا كان الحال في الأزمنة القديمة في جزر
الباليار وعن الأوجليين الإفريقيين، وهكذا هو الحال في الأزمنة الحاضرة عند الباليار في الحبشة. وعند شعوب أخرى يمثل
شخص رسمي –زعيم القبيلة أو العشيرة، الكاسيك أو الشامان أو الكاهن أو الأمير، أو أياً كان لقبه،- الجماعة
المعنية ويمارس حق الليلة الأولى على العروس. ورغم جميع جهود الرومانطيقيين الجدد لتبييض صفحة هذا الواقع، لا يزال
هذا jus primae noctis*[1] ساري المفعول في الوقت الحاضر، بوصفه أثراً من آثار الزواج الجماعي، عند أغلبية سكان
ألاسكا (بانكروفت،”العروق الأصلية”، المجلد الأول)، وعند التاهو في المكسيك الشمالية (المرجع ذاته)،
وعند شعوب أخرى، وكان قائماً في جميع القرون الوسطى، – على الأقل في البلدان التي كانت في البدء سلتية، كما في
أراغون مثلاً، والتي نجم فيها مباشرة من الزواج الجماعي. وبينا لم يكن الفلاحون يوماً في قشتالة أقناناً، كانت
القنانة تسود بأبشع مظاهرها في أراغون حتى قرار فرديناند الكاثوليكي في عام 1486 (43)
. وقد جاء في هذه
الوثيقة:
“إننا نقرر ونعلن أن السادة المذكورين أعلاه”(البارونات، senyors) “… لا
يملكون كذلك الحق في قضاء الليلة الأولى مع المرأة التي يتزوجها الفلاح، ولا الحق في القفز، في ليلة العرس، كدليل
على سيادتهم، فوق المرأة أو فوق السرير بعد أن تضطجع المرأة، كذلك لا يملك السادة المذكورون أعلاه الحق في استخدام
ابنة الفلاح أو ابنه رغماً عنهما، سواء بأجر أو بدون جر”. (النص الأصلي باللغة القطالونية وارد عند زوغنهيم،
“القنانة”، بطرسبورغ، عام 1861 (44)
)
و يقيناً أن باهوفن على حق مرة أخرى حين يؤد بإلحاح أن الانتقال مما يسميه “الهيتيرية” أو “الحمل الأثيم” إلى الزواج الأحادي قد تحقق أساساً بفضل النساء. فبقدر ما كانت العلاقات بين الجنسين المتوارثة من قديم الزمان تفقد طابعها البدائي الساذج مع تطور ظروف الحياة الاقتصادية وبالتالي مع تفسخ وانحلال الشيوعية البدائية وتزايد كثافة السكان، بقدر ما كانت هذه العلاقات تبدو للنساء مذلة ومرهقة، وما كان لا بد لهن من السعي بإلحاح مشتد أبداً إلى نيل الحق في العفاف أو في الزواج المؤقت أو الدائم من رجل واحد فقط، بوصفه سبيلاً للخلاص. ولم يكن من الممكن أن يحصل هذا التقدم بفضل الرجل، وذلك لأسباب عديدة، منها أنه لم يخطر لهم قط في البال، حتى في أيامنا هذه أيضاً، التخلي عن ملذات الزواج الجماعي العملي. وبعد أن تحقق الانتقال إلى الزواج الثنائي بفضل النساء، بعد ذاك فقط استطاع الرجال إدخال نظام وحدة الزواج الصارم،- وطبعاً بالنسبة للنساء فقط.
لقد ظهرت العائلة الثنائية على التخوم بين الوحشية والبربرية، وظهرت على الأغلب في الطور الأعلى من الوحشية، وهنا وهناك في الطور الأدنى من البربرية. وهي شكل العائلة المميز بالنسبة لعصر البربرية، مثلما الزواج الجماعي بالنسبة للوحشية، وأحادية الزواج بالنسبة للحضارة. ولكي تواصل العائلة الثنائية تطورها حتى تبلغ أحادية الزواج المتينة، كان لا بد من أسباب غير التي فعلت فعلها حتى الآن كما سبق ورأينا. في المساكنة الثنائية، جرى تقليص الجماعة حتى وحدتها الأخيرة، حتى جزيئتها من ذرتين، حتى رجل واحد وامرأة واحدة. وأنجز الاصطفاء الطبيعي عمله بتقلص حلقة العلاقات الزوجية بصرامة مشتدة أبداً. ولم يبق له ما يفعله في هذا الاتجاه. ولو لم تدخل الحلبة بالتالي قوى محركة جديدة، اجتماعية، لما كان ثمة أي أساس لنشوء شكل جديد للعائلة من المساكنة الثنائية. ولكن مثل هذه القوى المحركة أخذت تفعل فعلها.
و نغادر الآن أميركا هذه التربة الكلاسيكية للعائلة الثنائية. وليس ثمة أي علائم تتيح لنا أن نخلص إلى القول بأنه تطور هنا شكل أعلى للعائلة، وبأنه كانت تقوم هنا في مكان ما أحادية زواج متينة قبل الاكتشاف والفتح. أما الحال في العالم القديم، فآخر.
فهنا أدى تدجين الحيوانات وتربية القطعان إلى خلق مصادر للثروة لم يسمح بمثلها من قبل، وإلى نشوء علاقات اجتماعية جديدة تماماً. فحتى الطور الأدنى من البربرية، كانت الثروة الدائمة لا تتألف تقريباً إلا من المسكن والألبسة والحلي الخشنة والأدوات للحصول على الطعام وتحضيره، أي الزوارق والأسلحة والآنية المنزلية البدائية. وكان ينبغي الحصول على الطعام من جديد، يوماً بعد يوم. أما من الآن وصاعداً، فإن شعوب الرعاة آخذت تتقدم أكثر فكثر: فإن الآريين في البنجاب وفي وادي نهر الغانج، وكذلك في سهوب حوضي نهري جيحون وسيحون التي كانت آنذاك أغنى بكثير بالماء، والساميين على ضفاف نهري الفرات ودجلة، قد وجدوا في قطعان الخيل والجمال والحمير والبقر والغنم والماعز والخنازير ملكية كانت لا تتطلب غير المراقبة وغير أبسط صنوف العناية لكي تتكاثر بأعداد متنامية أبداً وتقدم طعاماً من الألبان واللحوم وافراً للغاية. وهكذا تراجعت الآن جميع الأساليب السابقة للحصول على الطعام إلى المرتبة الثانية، والصيد الذي كان من قبل ضرورة أصبح الآن بذخاً.
و لكن من ذا الذي كانت تخصه هذه الثروة الجديدة؟ في البدء، كانت، بلا ريب، تخص العشيرة، بيد أنه كان لا بد للملكية الخاصة للقطعان أن تتطور باكراً. ومن العسير القول ما إذا كان موسى، مؤلف ما يسمى بالكتاب الأول، قد اعتبر البطريرك ابراهيم مالكاً لقطعانه بموجب حقه الشخصي بوصفه رئيس مشاعة عائلية، أم بموجب مركزه كرئيس يرث بالفعل عشيرة. هناك أمر واحد لا ريب فيه، هو أنه ينبغي لنا ألا نتصوره مالكاً بمعنى هذه الكلمة الحالي. ولا ريب أيضاً أننا نجد على عتبة التاريخ الذي نملك عنه الوثائق، أن القطعان كانت في كل مكان ملكاً خاصاً لرؤساء العائلات، شأنها تماماً شأن المنتوجات الفنية في عصر البربرية والأدوات المنزلية المعدنية، ومصنوعات البذخ والزينة، وأخيراً القطيع البشري، أي العبيد.
لأنه تم الآن اختراع العبودية أيضاً. فلم يكن للعبد قيمة أو نفع بالنسبة لإنسان الطور الأدنى من البربرية. ولهذا كان الهنود الحمر الأميركيون يعاملون الأعداء المغلوبين بغير الطريقة التي شرعوا يعاملونهم بها في درجة أعلى من التطور. فقد كانوا يقتلون الرجال أو يأخذونهم كأخوة لهم في قبيلة المنتصرين. وكانوا يأخذون النساء زوجات لهم أو يضمونهن كذلك بوسيلة أخرى إلى قبيلتهم مع أولادهن السالمين. وفي هذه الدرجة من التطور كانت قوة عمل الإنسان لا تعطي بعد أي فائض ما ملحوظ يزيد على نفقات إعالته. ولكن الوضع تغير مع إدخال تربية الماشية وشغل المعادن والحياكة، ثم الزراعة في آخر المطاف. فقد حدث لقوة العمل، ولا سيما بعد أن أصبحت القطعان نهائياً ملكية عائلية، نفس ما حدث للنساء اللواتي كان الحصول عليهن من قبل سهلاً للغاية اللواتي أصبحت لهن قيمة تبادل وغدون سلعة تباع وتشرى. ولم تكن العائلة تتكاثر بسرعة تكاثر القطيع. كذلك ظهرت الآن الحاجة إلى مزيد من الناس لأجل مراقبة القطيع. ولهذا الغرض، كان من الممكن استخدام العدو الأسير الذي كان بوسعه، فضلاً عن ذلك، أن يتكاثر بسهولة مثل المواشي.
و ما إن أصبحت هذه الثروات ملكية خاصة للعائلات وما إن تنامت بسرعة، حتى سددت ضربة قوية إلى المجتمع المؤسس على الزواج الثنائي والعشيرة الأمية. لقد أدخل الزواج الثنائي إلى العائلة عنصراً جديداً. فإلى جانب الأم الحقيقية، الفعلية، وضع الأب الحقيقي، الفعلي، الثابت، الذي كان كذلك، أغلب الظن، أكثر ثبوتاً من بعض “الآباء” الحاليين. وبموجب تقسيم العمل الساري المفعول آنذاك في العائلة، كان على الزوج أن يستحصل على الغذاء وعلى أدوات العمل الضرورية لهذا الغرض، وكان له بالتالي حق ملكية أدوات العمل هذه، وفي حال فسخ الزواج، كان يأخذه معه، بينا كانت الزوجة تحتفظ بالآنية المنزلية. وبموجب العرف والعادة السائدين في المجتمع آنذاك، كان الزوج بالتالي مالكاً أيضاً لمصدر الغذاء الجديد، أي للقطيع، ومالكاً فيما بعد لأداة العمل الجديدة، أي العبيد. ولكن بموجب العرف والعادة السائدين في ذلك المجتمع، لم يكن بوسع أولاده أن يرثوه. ففيما يخص الإرث، كان الوضع كما يلي:
بموجب الحق الأمي، أي طالما كان النسب لا يحسب إلا تبعاً لحبل النسل النسائي، وكذلك بموجب نظام الوراثة البدائي في العشيرة، كان العضو المتوفى في العشيرة يرثه أنسباؤه في العشيرة. وكان ينبغي أن يبقى الإرث في العشيرة. وبما أن الأشياء التي يتألف منها الإرث كانت زهيدة، فقد كانت، على الأرجح، تنتقل بالفعل منذ غابر الأزمان إلى أقرب الأنسباء، أي إلى الأقرباء بالدم من ناحية الأم. ولكن أولاد الرجل المتوفى كانوا لا ينتمون إلى عشيرته، بل إلى عشيرة أمهم، فكانوا يرثون أمهم بادئ ذي بدء مع سائر أقربائها بالدم، وفيما بعد، في المقام الأول أغلب الظن. بيد أنه لم يكن بوسعهم أن يرثوا والدهم لأنهم كانوا لا ينتمون إلى عشيرته، فكان ينبغي أن يبقى ملك الأب في هذه العشيرة. ولذا بعد وفاة صاحب القطعان، كان ينبغي أن تنتقل قطعانه في المقام الأول إلى أخوته وأخواته وإلى أولاد أخواته أو حتى إلى ذريات أخوات أمه. أما أولاده بالذات، فكانوا محرومين من إرثه.
و هكذا، بقدر ما كانت الثروات تتنامى، كانت من جهة تعطي الزوج في العائلة مركزاً أهم من مركز الزوجة، وكانت من جهة
أخرى توالد السعي إلى الاستفادة من هذا المركز المترسخ لأجل تغيير نظام الوراثة التقليدي في مصلحة الأولاد. ولكنه لم
يكن من الممكن أن يتحقق هذا طالما كان النسب يحسب تبعاً للحق الأمي. ولهذا كان ينبغي إلغاء هذا الحق، فألغي. ولم يكن
ذلك صعباً بالقدر الذي نتصوره الآن. فإن هذه الثورة، التي كانت من أهم الثورات التي عرفتها البشرية، لم تكن بحاجة إل
مس أي من أعضاء العشرة الأحياء. فقد كان في وسعهم جميعهم أن يبقوا كما كانوا بالأمس. كان يكفي اتخاذ قرار بسيط يقضي
بأن تبقى ذرية أعضاء العشيرة الرجال في المستقبل ضمن العشيرة وبأن تخرج ذرية أعضاء العشيرة النساء منها وتنتقل إلى
عشيرة والدها. وهكذا ألغي الانتساب حسب جبل النسل النسائي وحق الوراثة حسب خط الأم، وأقر الانتساب حسب حبل النسل
الرجالي وحق الوراثة حسب خط الوالد. ونحن لا نعرف شيئاً عن كيف ومتى تحققت هذه الثورة عند الشعوب المتمدنة. فهي تعود
بكليتها إلى عهد ما قبل التاريخ. أما أن هذه الثورة قد تحققت، فهذا ما أعطت عنه وفراً من البراهين والمعلومات التي
جمعها باهوفن على الأخص عن آثار الحق الأمي العديدة. ونحن نرى بأي سهولة تتحقق من مثال جملة كاملة من قبائل الهنود
الحمر حيث لم تتحقق إلا مؤخراً وحيث لا تزال تتحقق جزئياً من جراء تعاظم الثروة ومن جراء التغيرات في نمط الحياة
(للانتقال من الغابات إلى المروج)، وجزئياً من جراء تأثير الحضارة والمرسلين الأخلاقي. فإن ست قبائل من أصل ثماني
قبائل في حوض نهر ميسوري تحسب النسب وتعترف بالإرث تبعاً لخط الرجال، بينا قبيلتان تحسبان النسب وتعترفان بالإرث
تبعاً لخط المرأة. وعند قبائل الشاوني والميامي والديلاوار، ترسخت عادة تسمية الأولاد بأحد أسماء عشيرة والدهم
لإدخالهم على هذا النحو إلى عشيرة الوالد، لكي يصبح بإمكانهم أن يرثوا والدهم.
“إن تغيير الأشياء بتغيير
أسمائها، والسعي إلى إيجاد وسيلة تتيح مخالفة التقاليد مع البقاء في إطار التقاليد، حين تكون المصلحة المباشرة
حافزاً كافياً هما سفسطة فطر عليها الإنسان!”(ماركس)(45)
و من هنا نجم تشوش مستعص كان يمكن القضاء عليه، وقد قضي عليه جزئياً، بالانتقال إلى الحق الأبوي.
“إن هذا
الانتقال يبدو على العموم طبيعياً للغاية”(ماركس)(46)
.
أما ما يمكن أن يقوله لنا الحقوقيون ممن يلجأون إلى طريقة المقارنة، عن الشكل الذي تحقق به هذا الانتقال عند الشعوب المتمدنة في العالم القديم، – فإنه يقتصر كله تقريباً على الفرضيات بالطبع،- أنظر م. كوفاليفسكي “عرض موجز عن أصل وتطور العائلة والملكية”، ستوكهولم، 1890 (47) .
إن إسقاط الحق الأمي كان هزيمة تاريخية عالمية للجنس النسائي. فقد أخذ الزوج دفة القيادة في البيت أيضاً، وحرمت الزوجة من مركزها المشرف، واستذلت، وغدت عبدة رغائب زوجها، وأمست أداة بسيطة لإنتاج الأولاد. إن وضع المرأة المذل هذا، الذي يظهر ببالغ السفور عند يونانيي العصر البطولي وبسفور أشد عند يونانيي العصر الكلاسيكي قد طلي تدريجياً رياء ونفاقاً بالمساحيق، وأضيفت عليه أحياناً أشكال أخف وأرق، ولكن لم يقض عليه إطلاقاً.
و ما إن أقرت سلطة الرجال بوجه الحصر على هذا النحو، حتى أخذ مفعولها الأول يتبدى في شكل انتقالي ظهر آنذاك، هو شكل العائلة البطريركية (الأبوية). إن الميزة الرئيسية التي تتميز بها هذه العائلة ليست تعدد الزوجات، الذي سيتناوله الكلام فيما بعد، بل
“تنظيم عدد معين من الأشخاص، الأحرار وغير الأحرار، في عائلة تخضع للسلطة الأبوية لرئيس العائلة. ففي العائلة السامية، يعيش رئيس العائلة هذا في ظل تعدد الزواجات؟، وللعبيد زوجات وأولاد، وغاية التنظيم كله رعاية القطعان في حدود رقعة معينة من الارض”(48) .
إن ضم العبيد إلى هذه العائلة والسلطة الأبوية هما العلامتان الجوهريتان اللتان تميزاه هذه العائلة. ولهذا كانت العائلة الرومانية النموذج النهائي الكامل لهذا الشكل من العائلة. إن كلمة familia لا تعني، في الأصل، المثال الأعلى للبرجوازي الصغير التافه المعاصر الذي يجمع في ذاته بين العاطفية والمشاجرات البيتية، بل إنها لا تعني بادئ ذي بدء عند الرومانيين الزوج والزوجة والأولاد، بل تعني العبيد فقط. إن كلمة famulus تعني العبد البيتي، وكلمة familia تعني مجموعة العبيد الذين يخصون رجلاً واحداً. وحتى في زمن غايوس، كانت familia, id est patrimonium (أي الميراث) تورث بالوصية. وقد استنبط الرومانيون هذا التعبير لأجل تعريف الهيئة الاجتماعية الجيدة التي كان رئيسها سيداً على المرأة والأولاد وعدد معين من العبيد وكان يملك، بحكم السلطة الأبوية الرومانية، حق الحياة والموت على جميع هؤلاء الأشخاص الخاضعين له.
“و عليه، ليس هذا التعبير أقدم من النظام العائلي المصفح الذي انبثق عند القبائل اللاتينية بعد إدخال الزراعة والعبودية الشرعية، وبعد انفصال الإيطاليين الآريين عن اليونانيين”(49) .
و يضيف ماركس قائلاً:
” إن العائلة العصرية لا تنطوي على جنين العبودية (servitus) وحسب، بل أيضاً على جنين القنانة، لأنها مقرونة منذ بادئ بدء بفروض (خدمات) الزراعة. وهي تنطوي بشكل مصغر على جميع التناقضات التي تطورت فيما بعد على نطاق واسع في المجتمع وفي دولته”(50) .
إن شكل العائلة هذه يعني الانتقال من الزواج الثنائي إلى أحادية الزواج. فلأجل ضمان أمانة المرأة، وبالتالي لأجل ضمان أبوة الأولاد، توضع الزوجة تحت سلطة زوجها المطلقة، فإذا قتلها، فإنه لا يفعل غير أن يمارس حقه.
مع ظهور العائلة البطريركية، ندخل في ميدان التاريخ المكتوب وندخل في ميدان يستطيع فيه علم القانون المقارن أن يقدم لنا مساعدة كبيرة. وبالفعل، ساعدنا هذا العلم على القيام ها بخطوة كبيرة إلى أمام. فنحن مدينون لمكسيم كوفاليفسكي (“عرض موجز عن أصل وتطور العائلة والملكية”، ستوكلهم، عام 1890) بالبرهان على أن المشاعة البيتية البطريركية التي نجدها الآن عند الصرب والبلغار باسم زادروغا zàdruga (و تعني تقريباً رابطة تعاونية) أو براتستفو Bratstvo (أخوية) وفي شكل آخر عند الشعوب الشرقية قد شكلت الدرجة الانتقالية من العائلة التي انبثقت من الزواج الجماعي وقامت على الحق الأمي، إلى العائلة الفردية في العالم الحالي. وهذا، على ما يبدو، ثابت فعلاً على الأقل فيما يخص الشعوب المتمدنة في العالم القديم، فيما يخص الآريين والساميين.
إن زادروغا سلافيي الجنوب هي خير مثال لا يزال حياً على هذا النوع من المشاعة العائلية. فهي تضم بضعة أجيال من أخلاف يتحدرون من أب واحد مع زوجاتهم، ناهيك بأنهم يعيشون معاً في بيت واحد ويحرثون حقولهم بصورة مشتركة ويأكلون ويلبسون من الاحتياطيات المشتركة ويملكون معاً الدخل الفائض. وتخضع المشاعة للإدارة العليا لرب البيت (domàcin) الذي يمثلها حيال العالم الخارجي، ويحق له أن يبيع الأشياء الصغيرة، ويدير الصندوق ويتحمل المسؤولية عن الصندوق وعن حسن سير الاستثمارة كلها. وهو ينتخب، وليس من الضروري حتماً أن يكون أكبر الأعضاء سناً. والنساء يخضعن، مع ما يقمن به من أعمال، لقيادة ربة البيت (domàcica) التي هي عادة زوجة رب البيت. وهي أيضاً تضطلع بدور هام، غالباً ما يكون الدور الحاسم، عند اختيار الأزواج لأجل فتيات المشاعة. ولكن السلطة العليا تنحصر في المجلس العائلي، في اجتماع جميع أعضاء المشاعة الراشدين، سواء منهم النساء أو الرجال. وأمام هذا الاجتماع يقدم رب البيت حساباً، والاجتماع يتخذ القرارات النهائية ويحاكم أعضاء المشاعة ويقرر عمليات البيع والشراء الهامة- ولا سيما عندما تتعلق بالأراضي – والخ…
و منذ نحو عشرة أعوام فقط، أقيم الدليل على أن مثل هذه المشاعات العائلية الكبيرة لا تزال قائمة في روسياً أيضاً (51) . ومن المعترف الآن من الجميع أنها تمد جذورها عميقاً في العادات الشعبية الروسية شأنها شأن المشاعة القروية. وهي ترد في أقدم المجموعات الروسية من القوانين، في “حقيقة” ياروسلاف (52) ، تحت الاسم نفسه (Vervj *[2]) الذي ترد به في القوانين الداليماتية (53) ، كما توجد أيضاً إشارات إليها في المصادر التاريخية البولونية والتشيكية.
و عند الجرمان كذلك، كما يقول هويسلر (“أسس الحق الجرماني”(54) ، ليست الوحدة الاقتصادية، في الأصل، العائلة الفردية بمعناها الحالي، بل “المشاعة البيتية” التي تتألف من عدة أجيال مع عائلاتها، وتشمل أيضاً العبيد في أحيان كثيرة. إن العائلة الرومانية تنتمي هي أيضاً إلى هذا النموذج، ولهذا كانت سلطة الأب المطلقة وحرمان سائر أعضاء العائلة من الحقوق حياله موضع جدال قوي في الآونة الأخيرة. فقد كانت توجد، على ما يبدو، مشاعات عائلية مماثلة عند السلت من سكان إرلنده. وفي فرنسا، دامت هذه المشاعة في مقاطعة نيفرنيه حتى الثورة الفرنسية تحت اسم parçonneries، بينا لم تزل بعد كلياً في أيامنا في مقاطعة فرانش –كونته. وفي ناحية لووان (محافظة سون- أي- لوار)، تقع العين على بيوت فلاحية كبيرة فيها قاعة مركزية عالية بعلو السقف نفسه تحيد بها من كل جانب غرف للنوم يصعدون إليها بسلالم من 6 إلى 8 درجات، وتعيش فيها بضعة أجيال من العائلة ذاتها.
و لقد أشار نيازخ (55) في عصر الإسكندر الكبير إلى وجود مشاعية بيتية في الهند تقوم على أساس المشاركة في حراثة الأرض، وهذه المشاعة لا تزال موجودة الآن في المكان ذاته، أي البنجاب وفي عموم القسم الشمالي الغربي من البلد. واستطاع كوفاليفسكي نفسه إثبات وجودها في القفقاس. وفي الجزائر لا تزال قائمة في بلاد القبائل. وهي كانت موجودة، على ما يبدو، حتى في أميركا، ويعتقدون أنها موجودة في “calullis” بالمكسيك القديمة التي يصفها سوريتا (56) . وبالعكس، أثبت كونوف (“Ausland” العدد 42-44، عام 1890 (57) ) بما يكفي من الوضوح أنه كان يوجد في البيرو عند فتحها، شيء ما يشبه نظام “المارك” (و من المدهش حقاً أن هذه “المارك” كانت تسمى كذلك marca) ويقوم على التقسيم الدوري للأراضي المحروثة، وبالتالي على الحراثة الفردية.
و على كل حال، تكتسب الآن المشاعة البيتية البطريركية التي تقوم على الشراكة في ملكية الأرض وحراثتها، أهمية تختلف تماماً عن أهميتها السابقة. فلم يعد بوسعنا الآن أن نضع موضع الشك ذلك الدور الكبير الذي اضطلعت به عند الشعوب المتمدنة وبعض الشعوب الأخرى في العالم القديم عند الانتقال من العائلة المؤسسة على الحق الأمي إلى العائلة الفردية. وسنعود مرة أخرى في عرضنا إلى الاستنتاج الآخر الذي خلص إليه كوفاليفسكي والقائل أنها كانت كذلك درجة انتقالية نشأت منها المشاعة القروية أو المشاعة- المارك القائمة على حراثة الأرض بصورة فردية من قبل مختلف العائلات، وعلى تقسيم الحقول والمراعي بصورة دورية أولاً ثم بصورة نهائية.
و فيما يخص الحياة العائلية في داخل هذه المشاعات البيتية، تجدر الإشارة إلى أنه من المعروف أن رؤساء العائلات في روسيا على الأقل يسيئون كثيراً استغلال مركزهم حيال النساء الشابات في المشاعة، ولا سيما حيال كناتهم وغالباً ما يشكلون منهن لأنفسهم حريماً، والأغاني الشعبية الروسية بليغة الدلالة في هذا الصدد.
و قبل الانتقال إلى أحادية الزواج التي تطورت بسرعة منذ سقوط الحق الأمي، نقول بضع كلمات أخرى عن تعدد الزوجات وتعدد الأزواج. إن شكلي الزواج هذين لا يمكنهما أن يكونا غير استثناء- غير منتوجي بذخ من منتوجات التاريخ، إذا جاز القول،- إذا لم يكونا كلاهما موجودين في البلد نفسه في آن واحد، وليست الحال هكذا، كما هو معروف. ويما أنه لم يكن بالتالي في مقدور الرجال المفصولين عن شكل تعدد الزوجات أن يجدوا العزاء عند النساء اللواتي صرن زائدات بفعل شكل تعدد الأزواج، وبما أن عدد الرجال والنساء ظل حتى الآن متساوياً تقريباً، بصرف النظر عن المؤسسات الاجتماعية، فلم يكن من الممكن أن يتعمم هذا الشكل أو ذاك من أشكال الزواج من تلقاء نفسه. وبالفعل، كان تعدد الزوجات عند رجل واحد، بكل تأكيد، نتيجة للعبودية وكان مقصوراً على من يشغلون مركزاً استثنائياً. وفي العائلة البطريركية (الأبوية) السامية، كان البطريرك (الأب) وحده، وبعض من أبنائه في أفضل الأحوال، يعيشون في حالة تعدد الزوجات، بينما كان ينبغي للآخرين أن يكتفوا بزوجة واحدة. ولا يزال هذا الوضع قائماً في الوقت الحاضر في الشرق كله. فإن تعدد الزوجات هو امتياز الأغنياء والأعيان، ويتحقق أساساً بشراء العبدات، أما سواد الشعب فيعيش في حالة أحادية الزواج، كذلك يشكل تعدد الأزواج استثناء في الهند والتيبت، ولا ريب أن مسألة أصل هذا الشكل من الزواج الذي تجرد من الزواج الجماعي لا تخلو من الطرافة، ولا تزال تتطلب المزيد من الدراسة. ومن جهة أخرى، يبدو تعدد الأزواج، في ممارسته العملية، أكثر تساهلاً بكثير من تنظيم الحريم عند المسلمين القائم على الغيرة. ذلك هو الحال، مثلاً، عند النايير في الهند على الأقل، رغم أن لكل ثلاثة رجال أو أربعة أو أكثر امرأة واحدة مشتركة، ولكن بمقدور كل منهم أن تكون له أيضاً بالمشاركة مع ثلاثة رجال أو أكثر زوجة ثانية وكذلك زوجة ثالثة ورابعة، الخ… ومن المدهش أن ماك- لينان الذي وصف هذه النوادي الزواجية التي يمكن لأعضائها أن يكونوا في الوقت ذاته أعضاء في عدة نواد، لم يكتشف الفئة الجديدة من زواج النوادي. ولكن عادة النوادي الزواجية هذه ليست أبداً بالفعل شكل تعدد الأزواج، بل هي، على العكس كما أشار جيرو-طولون، مجرد شكل خاص من الزواج الجماعي، فالرجال يعيشون في حالة تعدد الزوجات والنساء في حالة تعدد الأزواج.
(38). L. H. Morgan. “Ancient Society”. London,1877. (ل. هـ. مورغان. “المجتمع القديم” لندن، 1877).
(39). يستشهد إنجلس برسالة رايت حسب المقطع الوارد منها في كتاب مورغان (راجعوا L. H. Morgan. “Ancient Society”. London,1877. (ل. هـ. مورغان. “المجتمع القديم” لندن، 1877)). وقد نشرت هذه الرسالة (و تاريخها الصحيح 19 أيار 1874، لا 1873 كما أورد مورغان) بنصها الكامل في مجلة “American Anthropologist”, New Series, Menasha, Wisconsin, U.S.A, 1933 (“الإنتروبولوجي الأميركي”. السلاسل الجديدة. ميناشا، وسكونسن. الولايات المتحدة الأميركية، 1933، العدد الأول).
(40). H.H. Bancroft. “The Native Races of thePacific States of North America”. Vol I, New York, 1875. (بانكروفت. “العروق الأصلية في ولايات أميركا الشمالية على المحيط الهادي”. المجلد الأول، نيويورك، 1875.
(41). الساتورنالات، أعياد سنوية في روما القديمة كانت تقام تكريماً للإله ساتورن (زحل) في مرحلة الانقلاب الشمسي الشتوي لمانسبة نهاية الأعمال الزراعية. وفي هذه الأعياد، كانت تقام المآدب والطقوس العربيدة على نطاق جماهيري، وكان العبيد يشتركون في الساتورنالات وكانوا يسمحون لهم فيها بالجلوس إلى طاولة واحدة مع الأحرار. وفي أيام الساتورنالات، كانت تسود حرية العلاقات الجنسية. وقد اتخذت كلمة “الساتورنالات” معنى يدل على مآدب العربدة والسكر وحفلات التهتك والفجور.
(42). المقصود هنا الكتاب الذي كتبه أغاسيس مع زوجته Professor andMrs.Louis Agassiz. “A Journey in Brazil”. Boston and New York, 1886. (البروفسور والسيدة لويس أغاسيس. “رحلة في البرازيل”. بوسطن ونيويورك، 1886).
(43). المقصود هنا ما يسمى بـ “قرار غوادالوب” الصادر في 21 نيسان 1486- أي قرار التحكيم الذي أصدره الملك الإسباني فرديناند الخامس الكاثوليكي تحت ضغط الانتفاضة الفلاحية في قطالونيا. وقد برز الملك في هذه المناسبة كحكم بين الفلاحين المنتفضين وبين الإقطاعيين. نص القرار على إلغاء ارتباط الفلاح بالأرض وإبطال عدد من أشد الأتاوات الإقطاعية مدعاة لكره الفلاحين، بما فيها حق الليلة الأولى، ونص بالمقابل على إلزام الفلاحين بدفع تعويضات كبيرة.
(44). S. Sugenheim. “Geschichte derAufhebung der Leibeigenschaft und Hörigkeit in Europa bis um die Mittedes neunzehnten Jahrhunderts”. St. Petersburg, 1861 (س. زوغنهايم. “تاريخ إلغاء حق القنانة والتبعية الشخصية في أوروبا حتى أواسط القرن التاسع عشر ضمناً”. سانت بطرسبورغ، 1861).
(45). كارل ماركس. “ملخص كتاب لويس هـ. مورغان “المجتمع القديم””.
(46). كارل ماركس. “ملخص كتاب لويس هـ. مورغان “المجتمع القديم””.
(47). M. Kovalevsky. “Tableau des origines et de l’évolution de lafamille et de la propriété”. Stockholm; 1890. (مـ. كوفالفسكي. “بيان عن أصل وتطور العائلة والملكية”. ستوكهولم، 1890).
(48). L. H. Morgan. “AncientSociety”. London,1877. (ل. هـ. مورغان. “المجتمع القديم” لندن، 1877).
(49). L. H. Morgan. “Ancient Society”. London,1877. (ل. هـ. مورغان. “المجتمع القديم” لندن، 1877).
(50). كارل ماركس. “ملخص كتاب لويس هـ. مورغان “المجتمع القديم””.
(51). المقصود هنا بحث كوفالفسكي ” الحق البدائي. الطبعة الأولى. العشيرة”. موسكو 1866. في البحث يستشهد بمعطيات أوردها أروشانسكي في عام 1875 ويفيمنكو في عام 1878 عن المشاعة العائلية في روسيا.
(52). أطلق اسم “حقيقة” ياروسلاف على القسم الأول من الصيغة الأولى القديمة “للحقيقة الروسية” أي لمجموعة قوانين روسيا القديمة، التي ظهرت في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، على أساس حق العرف والعادة في ذلك الزمن، والتي كانت تعكس العلاقات الاقتصادية والاجتماعية في مجتمع ذلك الزمن.
(53). القوانين الدالماتية، مجموعة قوانين كانت سارية المفعول من القرن الخامس عشر إلى القرن السابع عشر في بوليتسا (قسم من دالماتيا)، وهي معروفة أيضاً باسم “نظام بوليتسا”.
(54). A. Heusler. “Institutionen desDeutschen Privatrechts”, B. II, Leipzig,1886. (هوسلر. “المبادئ الأساسية للحق الخاص الألماني “. المجلد الثاني. ليبزيغ، 1886).
(55). إشارة نيارخ المذكورة هنا تجدونها في مؤلف سترابون “الجغرافية”، الكتاب الخامس عشر، الفصل الأول.
(56). Calpullis (كالبوليس)، طوائف عائلية عند الهنود الحمر في المكسيك في مرحلة استيلاء الأسبان على هذا البلد. كل طائفة عائلية (Calpulli) (كالبولي) كان لجميع أعضائها الأصل واحد مشترك وكانت تملك قطاعاً مشتركاً من الأرض لا يجوز التنازل عنه ولا قسمته بين الورثة, وصف ألونسو سوريتا “Rapport sur les différentsclasses de chefs de la Nouvelle – Espagne , sur les lois, les mœurs deshabitants, sur les impôts établis avant et depuis la conquête, etc..”. (“تقرير عن مختلف فئات الزعماء في إسبانيا الجديدة وعن القوانين وعن أخلاق السكان والضرائب المفروضة قبل الفتح وبعده، الخ”). المنشور للمرة الأولى في “Voyages, relations et mémoires originaux pour servir à l’histiore de la découverte del’Amérique, publiés pour la première fois en français , par H. Ternaux – compans “.Vol 11, Paris, 1840. (“رحلات وتقارير ومذكرات أصلية تتعلق بتاريخ اكتشاف أميركا ونشرها للمرة الأولى بالفرنسية ترنو-كومبان”. المجلد 11. باريس، 1840).
(57). المقصود هنا مقالة كونوف “Die altperuanischen Dorf- undMarkgenossenschaften” (“المشاعات القروية والماركية البيروانية القديمة “) المنشورة في مجلة “Ausland” في 20 و27 تشرين الأول و3 تشرين الثاني من عام 1890.
[1]. حق الليلة الأولى. الناشر.
[2]. فرف. الناشر.