1- الثورة الروسية والفوضوية والإضراب العام |
|||
تعود كل كتابات وبيانات الاشتراكية العالمية في موضوع الإضراب الجماهيري إلى وقت يسبق الثورة الروسية (1905-م)، أول تجربة تاريخية لوسيلة النضال هذه على نطاق واسع. ولذا فإن من الواضح أنها في معظمها قد عفى عليها الزمن، وموقفها من المسألة هو جوهريا موقف إنجلز الذي كتب في العام 1873، في نقده للأخطاء الثورية التي ارتكبتها الباكونينية في إسبانيا، يقول: « الإضراب العام هو في برنامج الباكونينية الرافعة التي تستخدم لتحقيق الثورة الاجتماعية. فذات صباح جميل، سيتوقف العمال جميعا في كل صناعة في البلد، وربما في كل البلدان، عن العمل ليجبروا بذلك الطبقات الحاكمة على الخضوع خلال قرابة أسابيع أربعة، أو على شن هجوم على العمال، فيصبح للعمال الحق في أن يدافعوا عن أنفسهم وقد ينتهزون الفرصة للإطاحة بالمجتمع القديم. وليس هذا الاقتراح جديدا أبدا: فقد عرضه الاشتراكيون الفرنسيون والبلجيكيون باستمرار منذ العام 1848، ولكنه مع ذلك ذو أصل إنجليزي. فخلال التقدم السريع القوي الذي أحرزته الحركة الشارتية (الميثاقية) بين العمال الانجليز عقب أزمة عام 1837، جرى التبشير بـ« الشهر المقدس » –إيقاف العمل على النطاق القومي- في وقت مبكر يعود إلى العام 1839، فكانت له أصداء محبذة حتى أن عمال المصانع في شمال إنجلترا حاولوا القيام به في يوليو 1842. وفي مؤتمر التحالفيين الذي انعقد في جنيف في 1 سبتمبر 1873 لعب الإضراب دورا عظيما، ولكن الجميع اعترفوا أن القيام به يتطلب تنظيما للطبقة العاملة يبلغ حد الكمال وخزينة حربية ملأى. وهذه هي عقدة المسألة. فمن جهة، لن تسمح الحكومات أبدا لصناديق العمال المالية أن تكبر إلى حد كاف، خاصة إذا شجعها على ذلك غياب العمال عن العمل السياسي، ومن جهة أخرى ستؤدي الأحداث السياسية وانتهاكات الطبقات الحاكمة إلى تحرير العمال قبل أن يتشكل هذا التنظيم المثالي وتبلغ الاعتمادات المالية الاحتياطية هذا القدر من الضخامة بوقت طويل. ولكن إذا كان العمال يملكون كل هذا فلن تعود بهم حاجة إلى سلوك طريق الإضراب العام غير المباشر لتحقيق هدفهم ». هنا نجد المنطق الذي ميز موقف الاشتراكية الديموقراطية من الإضراب الجماهيري خلال العقود التي تلت. وهو مبني على النظرية الفوضوية للإضراب العام –أي نظرية الإضراب العام كوسيلة لافتتاح الثورة الاجتماعية بدلا من النضال السياسي اليومي للطبقة العاملة- ويستنفذ هذا المنطق ذاته في الإشكال البسيط التالي: إما أن البروليتاريا ككل لم تمتلك بعد التنظيم القوي والموارد المالية المطلوبة، وفي هذه الحالة لا تستطيع القيام بالإضراب العام، أو أنها منظمة فعلا بصورة جيدة بما فيه الكفاية، وفي هذه الحالة لا تحتاج الإضراب العام. هذا المنطق بسيط ويبدو أةل وهلة منطقا لا يدحض حتى أنه أدى، مدة ربع قرن، خدمة ممتازة للحركة العمالية الحديثة كسلاح منطقي ضد الشبح الفوضوي وكوسيلة لنقل فكرة النضال السياسي إلى أوسع حلقات العمال. ولا شك أن الخطوات الواسعة التي خطتها الحركة العمالية في ربع القرن الأخير في كل البلدان الرأسمالية هي الدليل المقنع على قيمة تكتيكات النضال السياسي التي أصر عليها ماركس وإنجلز في معارضتهما للباكونينية. وما الاشتراكية الديموقراطية الألمانية في موقعها كطليعة للحركة العمالية العالمية كلها إلاّ نتاج التطبيق الدائب النشيط لهذه التاكتيكات. غير أن الثورة الروسية أدت الآن إلى مراجعة كاملة لهذا المنطق. ذلك أنها طبقت للمرة الأولى في التاريخ فكرة الإضراب الجماهيري على نطاق عظيم، حتى أنها –كما سنبحث في ما بعد- أنضجت الإضراب العام فاتحة بذلك حقبة جديدة في تطور الحركة العمالية. ولا يتبع من ذلك بالطبع أن تكتيكات النضال السياسي التي أشار بها ماركس وإنجلز كانت خاطئة أو أن نقدهما للفوضوية كان غير صحيح. على العكس من ذلك، إن سلسلة الأفكار ذاتها، الطريقة ذاتها، التاكتيكات الماركسية-الإنجلزية التي تكمن في أساس الممارسة السالفة للاشتراكية الديموقراطية الألمانية هي التي تنتج اليوم في الثورة الروسية عوامل جديدة وشروطا جديدة في الصراع الطبقي. والثورة الروسية، وهي التجربة التاريخية الأولى لنموذج الإضراب الجماهيري، لا تقدم تبرئة للفوضوية. وليس ذلك فحسب، بل أنها في الواقع تعني التصفية التاريخية للفوضوية. إن الوجود التاعس الذي قضي على هذا المنحى الفكري أن يعيشه في العقود الأخيرة بفعل التطور القوي للاشتراكية الديموقراطية الألمانية يمكن إلى حد ما تفسيره بسيادة الفترة البرلمانية سيادة مطلقة مدة طويلة. فمنحى يقوم كليا على « الضربة الأولى » و« العمل المباشر »، منحى « ثوري » بالمعنى الأكثر فظاظة للكلمة لا يمكن إلاّ أن يذبل مؤقتا في هدوء البرلمانية، ويمكن أن يستعيد الحياة ويكشف عن قوته الكامنة إذا عادت فترة النضال المباشر المكشوف. بدا أن روسيا، على وجه الخصوص، أصبحت حقل التجارب للأعمال البطولية للفوضوية. فقد كانت روسيا بلدا لا تملك فيه البروليتاريا أي حقوق سياسية إطلاقا، وليس لها إلا تنظيمات ضعيفة جدا، بلدا فيه قطاعات من السكان مختلفة الألوان وفوضى من المصالح المتضاربة ومستوى ثقافي منخفض بين جماهير الشعب، ويستخدم فيه النظام السائد العنف بفظاظة قصوى، فبدت الأمور كما لو أن ذلك كله إنما وجد ليرفع الفوضوية فجأة إلى سدة القوة ولو لفترة قصيرة. وفي النهاية كانت روسيا مسقط رأس الفوضوية، ولكن موطن باكونين أصبح مقبرة لتعاليمه. فالأمر لا يقتصر فحسب على أن الفوضويين في روسيا لا يقفون على رأس حركة الإضراب الجماهيري، وأن القيادة السياسية للعمل الثوري تقع كليا في يد المنظمات الاشتراكية الديموقراطية التي يعارضها الفوضويون الروس معارضة مريرة على أنها « أحزاب بورجوازية » أو تقع جزئيا في يد منظمات اشتراكية واقعة بدرجة أو بأخرى تحت تأثير الاشتراكية الديموقراطية وقريبة منها إلى هذا الحد أو ذاك –مثل الحزب الإرهابي، حزب « الثوريين الاشتراكيين »- بل يتعدى الأمر ذلك إلى أن الفوضويين ببساطة ليسوا موجودين كنهج سياسي جدي في الثورة الروسية. فهناك فقط في مدينة ليتوانية صغيرة تتميز بظروف صعبة – خليط مشوش من قوميات متعددة بين العمال، حالة مشتتة إلى درجة قصوى من الصناعة الصغيرة الحجم، بروليتاريا مضطهدة بقسوة – هي بيليستوك توجد من بين سبع أو ثماني مجموعات ثورية مختلفة حفنة من « الفوضويين » نصف النامين ينشرون التشوش والحيرة بأقصى ما يستطيعون بين العمال، وكذلك تنجح جماعة من الناس من هذا النوع في موسكو ومدينتين أو ثلاث مدن أخرى في أن تجعل نفسها ملحوظة. ولكن ما هو الدور الفعلي للفوضوية في الثورة الروسية عدا بضع الجماعات « الثورية » هذه ؟ لقد أصبحت الفوضوية علامة اللص والمحتال العادي، فالكثير من أعمال السرقة والنهب التي لا تحصى يقوم بع بعض الأشخاص باسم « الشيوعية-الفوضوية » – أعمال تنمو كموجة هائجة ضد الثورة في كل فترة ركود وفي كل فترة تقف فيها الثورة موقف الدفاع المؤقت. لم تصبح الفوضوية في الثورة الروسية نظرية البروليتاريا المناضلة. بل أصبحت الراية الأيديولوجية التي تتجمع في ظلها البروليتاريا الرثة المعادية للثورة، تلك البروليتاريا الرثة التي تندفع بأعداد كبيرة كقطيع من سمك القرش في أعقاب سفينة الثورة. وبذلك قاربت السيرة التاريخية للفوضوية على الانتهاء. من جهة أخرى، لم يقم الإضراب العام في روسيا كوسيلة لتجنب النضال السياسي للطبقة العاملة، وعلى الأخص النضال البرلماني، ولا كوسيلة للقفز إلى الثورة الاجتماعية فجأة بانقلاب مسرحي، بل كوسيلة في المقام الأول لخلق ظروف النضال السياسي اليومي وبخاصة البرلماني. إن النضال الثوري في روسيا، الذي تشكل الإضرابات الجماهيرية أكثر أسلحته أهمية، نضال يقوم به الشعب العامل، والبروليتاريا قبل كل من عداها، من أجل الحقوق السياسية والشروط التي كان ماركس وإنجلز أول من بيَّن ضرورتها وأهميتها لنضال الطبقة العاملة من أجل إنعتاقها، والتي ناضل من أجلها في الأممية بكل قوتهما وضد الفوضوية. هكذا جعل الجدل (الديالكتيك) التاريخي، الصخرة التي تقوم عليها كل تعاليم الاشتراكية الماركسية، جعل الفوضوية تقف في الممارسة على تضاد مع الإضراب الجماهيري وهي التي ترتبط بها فكرة الإضراب الجماهيري ارتباطا وثيقا، بينما أصبح الإضراب الجماهيري، الذي كان يقارع بصفته نقيضا للنشاط السياسي للبروليتاريا، يبدو أقوى أسلحة النضال من أجل الحقوق السياسية. لذا إذا كانت الثورة الروسية قد جعلت مراجعة الموقف الماركسي القديم من مسألة الإضراب الجماهيري أمرا لا غنى عنه، فإن الماركسية ذاتها هي التي تابعت بمنهجها العام ووجهات نظرها النضال في شكل جديد. لن تموت حبيبة المغربي إلا بيد المغربي. الحركة الشارتية « الميثاقية »: حركة جماهيرية بريطانية كبيرة ابتدأت عام 1838 وامتدت إلى أوائل الخمسينات من القرن التاسع عشر. وكانت حركة تناضل من أجل الديموقراطية السياسية والمساواة الاجتماعية نضالا كاد أن يكون ثوريا. تمحورت الحركة الشارتية حول برنامج (ميثاق) للاقتراع العام وغيره من الإصلاحات السياسية الديموقراطية، وضعته رابطة شغيلة لندن.
|
|||